نشر الكاتب السعودي فيصل بن أحمد في صحيفة إيلاف الالكترونية يوم السبت 21 مايو 2022 ..مقالا تحت عنوان: القيم المشتركة والتعليم.. وصفة الرياض لعالم أكثر تعايشا، تطرق فيه الكاتب لملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان وهو أكبر حدث ديني يتم في الرياض تحت
رعاية رابطة العالم الإسلامي .. هذا نصه:
القيم المشتركة والتعليم.. وصفة الرياض لعالم أكثر تعايشا
استطاعت السعودية عقد أهم حدث ديني لافت في عناوينه وحضوره، وحتى مخرجاته المتمثلة في ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان. الملتقى كان فعالية فكرية، جمعت قادة الأديان كافة من ذوي الأصوات المعتدلة في الرياض للمرة الأولى، بهدف صوغ رؤية حضارية ترسخ مفاهيم الوسطية.
أولئك القادة الدينيون جميعهم تحلقوا على طاولة واحدة، بألوان وانتماءات عقائدية مختلفة، والهدف المشترك بينهم، هو نحت حالة الجمود التي اعترت الخطاب الديني من أجل إنتاج صيغة تهدف إلى تجديده وأنستنه، إلى جانب تعزيز منظومة الشروط الداعمة لفكرة التعايش بالمجتمعات الإنسانية، في خضم تزايد وتيرة التناحر.
الملتقى كان حسب رابطة العالم الإسلامي تعبيرًا حقيقيًا للإرادة الدينية ذات الهدف الروحي المجرد وليس للأيديولوجيا أو الخطابات السياسة. تنوع ديني مثير تميزت به هذه التظاهرة الروحية. هذا التنوع مطلب ضروري. إذ يساعد شيوعه في تعزيز قيم الاعتدال، ونشر الوعي بمفاهيم السلام، وتحويل الصدامات المفتعلة بين أتباع الأديان إلى تضامن إنساني عوضًا عن الاقتتال.
هذا الحدث الديني الضخم حظي بتقدير كبير. حقًا مهم في توقيته، ليتمازج ويشترك المسلمون مع أصحاب الديانات السماوية في إنتاج خطاب ديني منفتح وعصري لارتياد المستقبل، وإعلاء فضيلة التعايش في خضم تدفق الكراهية.
ومما يسترعي الانتباه ويستحق الالتفات أيضًا، أن هذا الحدث الديني المؤثر بتنوعه وزخم حضوره، تزامن مع عقد الرياض (مؤتمر ومعرض التعليم الدولي 2022) في الأسبوع ذاته. لذا بالتأكيد فإنه أصبح أسبوعًا مليئًا بإنتاج الأفكار المدنية التي تعلي من قيمة الإنسان وكرامته.
في ثلاثة أيام كان المؤتمر التعليمي يعقد جلساته العلمية، وورش العمل المتخصصة، بحضور نخبة من المؤسسات التعليمية والجامعات ومراكز التعليم المحلية والدولية من 23 دولة. جلسات المؤتمر ناقشت المتطلبات والأولويات؛ لاجتراح أفضل الممارسات في جودة مخرجات التعليم ومواءمتها مع أهداف التنمية المستدامة، بجانب التركيز على مدى الاحتياج إلى مفهوم المعرفة المتخصصة. الحقيقة إن هذين الحدثين المتمثلين في عقد مؤتمر ديني وآخر للتعليم بصفتهما صنوانان لا يفترقان، في أسبوع واحد، فيهما أبعاد حضارية كبرى نجحت السعودية في تقديمها باقتدار.
فالحدث الديني لافت بمخرجاته عبر رفض الخلط بين الدين والممارسات الخاطئة لأتباعه، علاوة على تأكيد حق الجميع في البحث عن مصالحهم وفق القيم والمشتركات الدينية – الإنسانية، وهذا إطار كبير للتعايش.
وبذات التميز والوهج الذي حظي به ملتقى القيم المشتركة بين أتباع الأديان، كان لافتًا هو الآخر، ملتقى التعليم الدولي. إذ كانت عناصر المعرض التعليمي فاعلة وتشير إلى الرغبة في تطوير العملية التعليمية بمعطيات عصرية حديثة. حدثان مذهلان يستحقان الالتفات عمليًا. خيوط التلاقي بينهما كبيرة. الأكيد أنهما حولا البلاد إلى ورشة عمل تنموية ضخمة، مليئة بالجلسات المتخصصة؛ لإنتاج أفكار تصوغ مستقبلًا مختلفًا؛ للعبور نحو أفق رحيب. ربما من الجيد التفاؤل في هذا التغيير العملي. وبتأمل كبير في طبيعة هذين الحدثين الحضاريين، فإن الرياض تفوقت عبرهما بـالربط بين قيم التنوير والاهتمام بالمعرفة والاستثمار في الفرد، بوصفهما إكسير حقيقي للنهوض.
إلى جانب تقديمها صورة حديثة لمفهوم الدبلوماسية الدينية، بـتكريس الغنى الروحي الديني وابتكار برامج عملية، من أجل ضمان استدامة المهمة الأخلاقية للدين، وجمع نخب المفكرين والقادة الدينيين. وخلصت في رأيي إلى صناعة تصورات نافعة من أجل عالم أكثر تسامحًا وسلامًا ومعرفة.
كل هذه الأمور التي حدثت في الرياض ليست من قبيل المصادفة. في رأيي، دون شك العالم والمنطقة بحاجة إليها خصوصًا بعد عواقب الجائحة التي تركت ندوبها الغائرة وتبعاتها الاقتصادية في وجه كوكبنا. إصلاح التعليم مهم وضروري، تزداد الحاجة إليه بصفة ملحة. والاهتمام ببناء ذهنية صلدة لدى الأفراد عبر تحديث العملية التعليمية إلى جوار الاطلاع على أفضل الممارسات العلمية الرائجة في العالم، خطوة في الاتجاه الصحيح. فالتعليم بالتأكيد من أهم مرتكزات التنمية.
في المقابل، لا يقل إصلاح التعليم عبر معطيات عصرية أهمية عن ضرورة التحديث في الخطاب الديني والدعوة إلى التضامن أيضًا فكما أسلفنا هما شيئين لا يفترقان. حضور التحديث ضرورة للانفتاح على العصر. والتجديد يبث الروح في الخطاب الديني بصورة تحترم الآخر وتعزز التعايش. وينتج فكر التجديد مقاربات حضارية تلامس حياتنا اليومية، وتظهر الأديان بطبيعتها بين البشرية، وهذا ما تتطلبه المجتمعات الإنسانية في الوقت الراهن.
استخلاص العبر من هذين الحدثين الفكريين يبعث برسالة تفيد بأن السعودية اختطت طريق التنوير عبر تبني أفكار ورؤى ذات طابع أخلاقي- إنساني. إذ دللت هذه الفعاليات الفكرية إلى إيمان المملكة بأن العنصر البشري هو المحرك الفاعل في التنمية. لذا عمدت إلى تركيز الاستثمار في عقل الإنسان وجوارحه عبر هذين الحدثين اللذان بالتأكيد حملت مضامينهما رسائل أخلاقية مثيرة للتفاؤل.
هذان الحدثان كانا في العاصمة الرياض، ويؤكدان جدية مشروع السعودية التنموي في المنطقة من أجل الدولة المدنية والإنسان، وكل هذا الذي يحدث وما سيحدث بعده، نزر يسير من عملية تنموية ضخمة خلاقة تذهب بالمملكة نحو مكانة حضارية لافتة.