حاوره بالرياض مبعوث “الخبر”.. جلال بوعاتي
في مقابلة حصرية حظيت بها “الخبر” بمكتبه بمدينة الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، فتح فضيلة الشيخ محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، كل النوافذ، مزيلا بالنقاش الهادئ الصادق تلك الغشاوات عن الأنظار، مبحرا في بحور العلم والحكمة، مقتبسا من هدي النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، مميطا اللثام عن أمهات الموضوعات التي تعج بها الساحة العربية والإسلامية، في عالم اليوم.. عالم تتلاطم أمواجه العاتية مخلفة الكثير من الزبد، عالم يغلف معالمه السراب الذي يحسبه الظمآن ماء زلالا، وما هو كذلك..
ولأن للجزائر مكانة خاصة في القلوب، كان الحديث مع فضيلته صريحا جدا، لم تخل منه بعض المشاكسات الإعلامية التي قوبلت بسعة صدر وتفاعل نادر واضح من خلال طرق أبواب القضايا الشائكة، وبلغة الفكر والإيمان الصادق بمستقبل الأمة الإسلامية الواعد.
يبرز الشيخ العيسى الملامح العامة والمتغيرات الفكرية التي طرأت بين الشرق والغرب ونقاط الاختلاف والالتقاء فيها، معرجا في ذلك على المستجدات المتعلقة بالحريات ومفهومها، مع التأكيد في الوقت ذاته على ضرورة عدم المساس بالهويات الدينية والوطنية، واحترام حق الآخر في الوجود بكرامة، وتغليب حسن الظن.
جلنا وصلنا مع الشيخ العيسى غربا وشرقا، في أي مكان يوجد الإسلام والمسلمون فيه، فهو لم يترك بلدا أو منطقة إلا وزارها ووقف على قياداتها الدينية يعكف على تصحيح المفاهيم، موضحا صورة الإسلام الحنيف بمقاربة جريئة يفهمها الغرب الذي مازال مغلوبا مكبلا بحالة من التردد عندما يتعلق الأمر بالإسلام والمسلمين.
في هذه المقابلة، ينبّه الشيخ العيسى إلى مهددات الوئام والسلام بين الأمم والشعوب التي ظهرت مؤخرا من خلال الاستفزازات الدينية، وسبل مواجهة الكراهية أو “الإسلاموفوبيا”، لافتا الانتباه إلى أن مبادرة “بناء الجسور بين الشرق والغرب” التي أطلقتها رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع الأمم المتحدة، متجاوزا المُعاد والمُكرر إلى خطوات عملية جادة قائمة على التفاهم المتبادل والكامل وعبر حوار جاد وفاعل لبناء الجسور بين الطرفين، مؤكدا أن ما يحدث في قطاع غزة، بفلسطين المحتلة، من دمار شامل مخلفا وضعا إنسانيّا كارثيّا.. وصمة عار في جبين المجتمع الدولي، وصمة لا يمكن أن تنسى أبدا.
فيما يلي نص المقابلة كاملة:
لو نبدأ من الغرب وماضي الحروب فيه، وحملاته الاستعمارية التي تركت جروحًا غائرة في الذاكرة لكثير من الشعوب، آخرُها الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا التي لها تداعيات شملت منطقتنا العربية، بل وعموم العالم الإسلامي. أولًا، هل هي حرب دينية بين الشرق والغرب، أم صراع حضاري وريادي؟ وأين موقع المسلمين والعرب منها؟
أما الحرب الروسية الأوكرانية، فالطرفان يعلنان في خطاباتهما، وبوضوح تام، أنها نزاع سياسي، وليس هناك جدلٌ في ذلك.أما فيما يخصالصراع الحضاري، فهو طرح موجود أو لنقُل نظرية متداولة، وتحديداً بعد أطروحة صموئيل هنتنغتون التي ضمَّنها كتابه المتشائم:”صدام الحضارات”،غير أننا (انطلاقاً من قيم ديننا الحنيف الداعي لسلام عالمنا ووئام مجتمعاته الوطنية) نقول: لسنا نرى أي باعث كوني – حتمي للصدام بين الحضارات، كما هي نظرية صموئيل التي تقول بحتمية الصدام، بل إن سيدنا ونبينا صلى الله عليه وسلم حفل بالقيم التي سبقت رسالة الإسلام، وسماها مكارم أخلاق، وذكر عليه الصلاة السلام أنه جاء ليتممها، وهو معنى قولنا في سياقنا المعاصر: “المشتركات الإنسانية” أو “القيم الإنسانية المشتركة”.
نعم، الحضارات تختلف فيما بينها، لكن يجمعها مشتركات تتفاهم من خلالها وتتسالم وتتعاون، وإن لم نقل بأهمية ذلك التفاهم والمسالمة، كانت الثانية التي تعني الصدام الحضاري، ويجب أن أؤكد هنا أن الصدام الحضاري ليس حتمياً كما يقول صموئيل، بل بفعل إرادة البشر إذا نُكسوا على رؤوسهم.
ولذلك، نعمل على دعم تحالف الحضارات، وبناء الجسور بين الشرق والغرب طبعاً في إطار المشتركات. نعم، نعتز بحضارتنا الإسلامية ونفخر عالياً ونسمو حقاً، ولا نرضى بأي تنازل عن قيمها مثقال ذرة فما فوقها، أياً كانت الذرائع أو الوساوس أو الأوهام، وإنما هي هويتنا الإسلامية عليها نحيا وعليها نموت، وأي تسلل في هذا له مصيدة ومرصاد من وعينا الإسلامي الراسخ.
في هذا السياق، لا بد أن نقف عند “المراحل المريرة” من ماضي الإنسانية. كيف تعلقون عليه، ومن هذا الماضي وربما الحاضر ما هو محسوب في الظاهر على الإسلام، وخاصة في قراءة غير المسلمين؟
هذه “المراحل المريرة” هي باختصار مراحلُ قادها الجهل وضعف الوعي والتخبط واللاعقلانية ومطامع التسلط، وبمعنى آخر التطرف والعته السياسي، حتى وإن حاول توظيف الدين لخدمة أهدافه من خلال كل من أخلد إلى الأرض، واتبع هواه من علماء السوء الذين شرَّعوا للسطو والغزو لهمجية النهب وهمجية التوسع الشائن لمجرد شهوة السلطة، ومن ذلك فرض الدين على الآخرين بالقوة واضطهاد المخالفين في الدين، حيث لا محل عندهم لقول الله تعالى: “لا إكراه في الدين”، وقد أساء كل من فعل ذلك لأنفسهم قبل أن يسيئوالهوياتهم أياً كانت، سياسية أو دينية أو إثنية أو غير ذلك، وفي هذا لا بد أن نتحفظ، بل ونمنع أيَّ قول أو فعل يَستغل حرية التدين للنيل من سِلْم المجتمعات وسكينتها والخروج على ثقافتها الدينية بالإساءة لوجدان المجتمع،لاسيما ما يحصل من بعض المحسوبين على المجتمع نفسه لينقلب على ديانته وثقافته ويثير الفتنة ويُلهب المشاعر، هذا مرفوض تماماً ولا يُحسب في إطار الحريات، فالحريات ليست مفهوماً سائباً يهيم على وجهه، بل هي مؤطرة بالمشروعية الدستورية والقانونية والعرفية، نعم هي مؤطرة باحترام الآخرين، مؤطرة بعدم إثارة الفتن، فالأمور يُنظر إليها من نوافذ عدة تعكس سعة الأفق الديني والفكري والمجتمعي، لا ننظر إليها من نافذة واحدة، أو بعين لا تريد أن تبصر إلا زاوية واحدة من الفضاء الواسع لقيمنا الدينية وقيمنا الإنسانية المشتركة، ولهذا جاءت قاعدة الشريعة بجلب المصالح ودرء المفاسد والموازنة بينهما عند التعارض، وذلك طبعاً وفق تراتيب فقهية معلومة، ولا ننسى هناأهمية النظر في المآلات، وسد الذرائع المُفضية للشر، وَفْقَ معايير معينة في درجة الإفضاء.
ولهذا، لاحظ كل من يحاول انتقاد هذا الأساس المتين، الأساس المنطقي الذي يعكس المعنى الحقيقي للقانون الطبيعي.. القانون الأخلاقي.. قانون الفطرة السوية.. وبعبارة أخرى أدق: “مكارم الأخلاق” التي بُعث سيدنا ونبينا صلى الله عليه وسلم ليتمها التي هي المشتركات الإنسانية،، المهم متى كان الأمر يمس هذا المنتقد، أو يمس من هو في دائرته، تَلْحَظُ أنه ينكُث تنظيرَهُ السابق؛ لأنه أمام أمر يصعب أن يواصل فيه على حساب تبعاته عليه، مهما تأوَّل من باطل القول والفعل، وتعسَّف في نسج الذرائع الفاسدة، ومن أبصر علم.
لهذا، الكون نظام محكم لا بد أن نتعامل مع سننه، ولاحظ من السنن لزوم جادة الحكمة والرأي الرشيد وإلا كانت علينا الثانية، انظر في هذا إلى ما فعلته اليابان على سبيل المثال، وذلك في الحرب العالمية الثانية حتى جاءتها قارعة دنيوية مؤلمة ومؤسفة، وبالمثْل لننظرْ كيف أساءت النازية لها ولعالمها فكانت الحرب العالمية الثانية، وكذلك حرب الثلاثين عامًا في أوروبا، جميعها حصدت أرواح ملايين البشر.
وبالمناسبة، روسيا التي تقول إنها شرقية وليست غربية، أكبر مدنها موسكو وسان بطرسبورغ اللتين تفاخر بهما روسيا، تقعان في المنطقة الغربية من أوروبا، والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية الروسية موجودة في موسكو الأوروبية، طبعاً، وصلت المسيحية للبلدان السلافية الشرقية من خلال المبشرين اليونانيين المبعوثين من الإمبراطورية البيزنطية وذلك في القرن التاسع الميلادي، لا نطيل في هذا، لكن يمكن القول بأن الشرقي والغربي بالنسبة لروسيا هو في الدرجة الأولى التكييف السياسي، فهي بدون شك ليست غربية سياسياً قولاً واحداً،، طبعاً إلى غير ذلك من التكييفات الأخرى التي تطرحها روسيا من الناحية الثقافية والعرقية.
ولهذاالأمر المقطوع به في تقديري؛ أن الغرب ليس شكلاً واحداً والشرق ليس شكلًا واحدًا، ولذلك قد يكون من المجازفة في العبارة القول بأن هذه ثقافة أو حضارة غربية أو شرقية في سياق جملة واحدة عامة غير مفصلة.
هل شرق أوروبا كغربها في الدين، وتحديداً المذهب المسيحي (وهو مهم للغاية بالنسبة للجميع)، وكذلك العرق واللغة، بل والتحالفات السياسية،، الاتحاد الأوروبي فيه 27 دولة،، لكن تأمل داخل هذا الاتحاد 24 لغة رسمية، وخذ أيضاً من تنوع الأعراق والثقافات، هل الثقافة أو الحضارة الاسكندنافية، على سبيل المثال، مثل الحضارة أو الثقافة الفرنسية أو البريطانية أو الألمانية أو الإسبانية وهكذا،، الكل أوروبي والكل غربي،، تركيا على سبيل المثال هي عضو حلف الناتو وأصل الكنيسة الأرثوذكسية فيها هناك المطران الأرثوذكسي وترتيبه الأول من المتكافئين المتساويين ويعد هذا المطران ممثل المسيحية الأرثوذكسية وقائدها حول العالم بحسب ما تصكه عبر تاريخها من تعاليم كنسية، بل وبعض أراضي تركيا أوروبية، هل سنقول بأن تركيا غربية بالمفهوم العشوائي السائد؟ طبعاً لا، تركيا بلد إسلامي وعضو في منظمة التعاون الإسلامي.
المهم أن الأمور لا بد أن تُقرأ وتُحلل من جميع الزوايا حتى لا تَختلط الأمور، وما أكثر العشوائية في عالم اليوم، وما أكثر الخلط، وما أكثر التخلف والجهل في سياقات دينية وفكرية وسياسية حساسة ومهمة،، وما أصيبت أمة أو جماعة أو حتى أفراد مثلما أصيبوا في رشدهم ووعيهم.
برأيكم، مع من نتحاور لتفادي الصدام، في ظل ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين التي نرى اليوم؟
-أولاً: لابد أن يصدر الحوار عن وجدان صادق يبحث عن الحقيقة.. يبحث عن حل عادل لموضوع الحوار.. وفي أفقنا الدولي لا بد أن يبحث عن سلام واستقرار عالمنا، وإلا فلا فائدة من حوار معيب.. من حوار شكلي.. لا نتعب أنفسنا ونضيع الوقت والجهد والمال في حوارات وندوات ومؤتمرات تنتهي إلى أرشيف النسيان وربما عادت بالسلب أيضاً.. وما من شك أن الأجندات الخاصة على حساب المصلحة العامة أفقدت كثيراً من الحوارات أهدافها وبددت الآمال حيالها.
الحوار وسيلة مهمة لتفادي الصدام والوصول إلى الأهداف النبيلة للحوار.. من الحوار الإيجابي نصل إلى وفاق حول تفعيل قيمنا الإنسانية الناظمة لعلاقات مجتمعاتنا المختلفة دينيًّا وثقافيًّا وإثنيًّا، لكن هذه القيم لا تقبل التجزئة ولا المحاباة ولا الحضور والغياب بحسب المصالح المادية، وأي انحياز إلى جانب معين على حساب تلك القيم فهو يعني الإساءة إليها وضرب مصداقية إنسانيتنا، بل وضرب لتضامننا الإنساني، وهذا ما تفعله سياسات الكيل بمكيالين التي تحدثتم عنها، هذه السياسة عقيمة ومصرعها وخيم، والصدق من أمر الله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ما أفلح كاذب وما خاب صادق وإن طال الزمن، نعم وإن طال الزمن لأمر يقدره الله وفق طبيعة هذه الحياة.
وعندما نتحدث عن ازدواجية المعايير، فالأمور معقدّة جدّا، تدخل فيها كثير من العوامل: المصالح السياسية، والاقتصادية، وبعض الإرث التاريخي أو الأيديولوجي،، وأمام كل ذلك، أصبح المجتمع الدولي عاجزاً.. حروبٌ تندلع وتخمد والمنظومة الدولية في موقف المتفرج، لاحظ (وهذا أمر مهم ومؤرق) ما يحدث الآن في غزة من دمار شامل مخلفاً وضعاً إنسانيّاً كارثيّاً، هذا في حقيقته وصمة عار في جبين المجتمع الدولي.. وصمة لا يمكن أن تنسى أبداً.. قيم الإنسانية تنزف.
الوضع العالمي مشبع بالمصالح المادية على حساب تحقيق القيم، وبمعنى آخر على حساب سيادة العدالة والمنطق هذا هو الواقع، وبالتالي هل يُفهم من كلامك أنه يجب رَكنُ حوار الحضارات جانباً؟
لا.. لا بالطبع، لا يجب أن يُركن جانبًا.. هذا سؤال مهم جدًّا.. بل هذا يعلِّمنا أن نؤسس لحوار الحضارات تأسيسًا سليمًا قبل أن نبدأ فيه، ونخطو خطواته اللازمة، وطالما هناك بارقة أمل، يجب أن لا نيأس.
وهذا هو موقف قيادات الأمم المتحدة الذين التقيناهم، فهم حريصون جدًّا على الاستمرار.. ولهذا، لما قدّمنا لهم من منصة رابطة العالم الإسلامي مبادرةَ بناء الجسور بين الشرق والغرب، حضرت معنا قيادات الأمم المتحدة، ولأول مرة تحضر لمبادرة قدمتها منظمة دينية داخل الأمم المتحدة. كما حضر معنا أيضاً في هذه المبادرة قادة دينيون ومفكرون وجامعات مرموقة، لأنهم جميعاً يعرفون أن هناك خطراً يهدد الجميع، وأن أهداف هذه المبادرة في غاية الأهمية، ولأنهم في جميع الأحوال على يقين بأهمية الحِوَار مهما تكن التحديات والتهديدات، لكننا من قبل ومن بعد نريد الحوار الجاد والفاعل والمؤثر وليس مكرر الحوارات ومعادها وتقليدها الذي ننعى عليه كما هو الباعث على سؤالكم الكريم،، لاحظ إذا كان الطعامُ ضاراً، لا نترك الأكل بل نُصلح الطعام لأننا بحاجة إليه.
طبعاً، يوجد آخرون يقولون بعدم جدوى الحوارات لأنها على الوصف الذي ذكرنا سابقاً، وبالتالي لا نسعى في طريق مسدود ورهانات خاسرة، يقولون الوقائع والحالات القريبة والبعيدة شاهدة على بؤس تلك الحوارات التي يصطدم منطقها مع الأهواء، وأحياناً التخلف وفي أحيان أخرى مع المجاملات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهي لا تصيب غرضاً وإنما التسلية المتبادلة والبروباغاندا الإعلامية اللاحقة، وهم في هذه الحالة يخدعون أنفسهم والتاريخ كاتب وشاهد وناعٍ عليهم.
لكننا نقول لأصحاب هذا الرأي إنما ذلكم في الحوار التقليدي المكرر والمعاد، على حين نحن ندعو للحوار الفاعل والمثمر وفق منطلقات تضمن فاعليته، ولهذا، جاءت مبادرتنا باسم بناء الجسور وليس مجرد الحوار، نقصد بذلك المضي بمفهوم الحوار نحو خطوة عملية جادة.
مبادرة بناء الجسور بين الشرق والغرب هل يمكن الرهان عليها أو ستكون من جنس الحوارات التي أشرتم إليها؟
-نعم، يُمكن التعويل عليها، لأنها تحمل آفاقاً عملية جادة، وهي متعددة المسارات: مسار القادة الدينيين.. مسار الشباب.. مسار مؤسسات الفكر والأبحاث.. مؤسسات البرلمانيين.. مسار الأكاديميين وخاصة إسهام الجامعات الكبرى.. مسار المؤسسات التعليمية،، مسار المؤسسات الثقافية.. مسار مؤسسات المجتمع المدني بمنصاتها المؤثرة في هذا الشأن.
وقد بدأنا في أولى توصيات مؤتمر بناء الجسور بين الشرق والغرب، بأن يصدر عن الأمم المتحدة توصية للدول الأعضاء بتضمين مناهج التعليم مواد تتعلق بصيغة التفكير السليمة نحو فهم الآخر والتعامل معه، وحفظ كرامته، واستيعاب السُّنَّة الكونية في الاختلاف والتنوع والتعدد، مع دليل إرشادي لهذا الغرض، نعمل عليه حالياً مع معمل مختص في جامعة كولومبيا بنيويورك لنصل لصيغة يمكن وصفها بالمشترك الإنساني.
وطبعاً، نحن في معتقدنا نصف تلك السُّنَّة بالسنة الإلهية، لكن الأمم المتحدة لا تتعامل بالصيغة الإيمانية، نظراً لطبيعة تأسيسها وللطبيعة الدستورية لكثير من الدول.. المهم أن لتلك المسارات برامج رائعة، وسيتم طرحها وعرضها خلال المؤتمر المقبل لبناء الجسور بين الشرق والغرب بمشيئة الله تعالى.
لاحظ ما أحسن أن تأتي هذه المبادرة التي رحبت بها الأمانة العامة بالأمم المتحدة.. رحبت بها داخل قاعتها الرسمية في نيويورك وبحضور قيادات أممية، ما أحسن أن تأتي من منظمة إسلامية بحجم رابطة العالم الإسلامي ومقرها مكة المكرمة.
العالم اليوم يعيش حالة انهيار أخلاقي، والقوي يأكل الضعيف، أي أن قانون الغاب هو السائد، وبسببه تتقهقر الإنسانية إلى الوراء. ماذا تقولون عن هذا؟
طبعاً سأقول لك بكل صراحة عالمنا اليوم ليس في أفضل حال، لكن بالنظر إليه على أنه فصل من فصول تاريخ البشرية، فهو أفضل من كثير من الحقب أو الفصول الماضية في طول وعرض تاريخنا الإنساني، نحن الآن أقلّ في ضحايا الحروب والأمراض والكوارث مقارنة بكثير من الحقب الماضية،، طبعاً باستثناء ما حصل من أوضار الحربين العالميتين الأولى والثانية.
عندما نستقرئ التاريخ الإنساني في طوله وعرضه، نجد أنه لا تخلو أي مرحلة من مراحله من حروب طاحنة، فالحروب تكاد تكون على الدوام هي الأصل والسلم خلاف الأصل، إما حرب ساخنة وهي الأكثر أو حرب باردة، الآن في عالمنا، هناك منظومة أممية وإن كان أداؤها ليس على مستوى طموح ميثاقها الأساسي الذي على قيمه المشتركة تأسست، لكن ذلك خير من العدم.
تلاحظ لم يكن لدى من سبق من الأمم هذا التحالف الأممي،، وإنما أحلاف جانبية قاعدتها شريعة الغاب، طبعاً نحن نفخر بفصولنا الإسلامية التي سلكت هدي الإسلام،، وعندما نقول سلكت هدي الإسلام نستبعد فصولاً حُسبت على التاريخ الإسلامي وهو منها براء، إنما تمثل أهواءها ومطامعها وهمجيتها، ومن مجازفاتها جاءت الكتب والتصورات السلبية عن الإسلام وذلك من قِبَل من لم يمحص.. وربما من قبل من سعد بذلك وأضاف عليه نسجاً آخر، ولهذا مهمة الكفاءات العلمية في الإسلام، وخاصة المؤسسات الأكاديمية، التصدي لهذا وبيان الحقيقة بالأسانيد وليس بالطرح المرتجل،، بالطرح الهزيل كما هو، مع الأسف، واقع كثير من المشاركات، ولكن بالبينات والزُّبُر.. بالمنطق الذي يلج العقول والقلوب ويُثخن كل مفتر ومدلس ويحل عُقد تمويهه وسحره والله تعالى يقول: “بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون”.
ومتابعة في الإجابة على سؤالك، أقول: عالمنا اليوم بحاجة إلى ميثاق أخلاقي فاعل، وتحت كلمة “فاعل” نضع خطوطًا.
لا بد أن تُستنفر كافة المؤسسات الدولية والوطنية للعمل من أجله، ويجب أيضا تأطيرُ هذا الميثاق الأخلاقي بأن يكون منطقيّا وقابلاً للتطبيق، وخاصة مراعاته لهويات وخصوصيات الدول، ونحن نعمل مع المعمل المختص في جامعة كولومبيا على مشروع من هذا القبيل بعنوان: “موسوعة القيم الإنسانية المشتركة”، ليقدم للمؤتمر بناء الجسور بين الشرق والغرب كمبادرة.
وأيضاً وحتى لا أنسى، يجب أن يتم التركيز على تنمية الوعي الوطني، فقد عانت الدول كثيرًا من سلبيات المنافسات السياسية ليصل إلى خطه الأحمر، وهو التناحر من أجل الحزب والأهواء السياسية على حساب المصلحة العامة، كل ذلك، مع الأسف، داخل الدولة الوطنية الواحدة، على شاكلة التناحر الطائفي والعرقي من أجل الطائفة والعرق.
لكن، ما سبب هذا التناحر على حساب المصلحة الوطنية، هل يمكن تشخيصه؟
أسبابها في الشأن السياسي تعود، باختصار، إلى ضعف أو انعدام الولاء الوطني، وذلك لحساب المصالح الحزبية أو الشخصية، ولهذا يسعى هؤلاء إلى محاولة تمرير أكاذيب وذرائع مزيفة، وبخاصة في الانتخابات، وهم في هذا إنما يراهنون على الأغبياء وهم مع الأسف ليسوا بقليل؛ ولهذا تجد البعض الآخر يقول بأنه لن يدخل في اختيار أي من المرشحين لأنهم وفق وعيه السياسي والمجتمعي لا يستحقون الدعم، وهذا النوع آثر العزلة والسلامة من المشاركة في هذا الوحل.
أما التناحر الطائفي: فالديني منهم هو باختصار انحراف في التدين.. والعرقي تخلفٌ في الوعي، وهما جميعاً يشتركان في عته التفكير.
نعم الصدام الطائفي والعرقي هو باختصار شديد عته في منهجية التفكير، وليسألوا أنفسهم ماذا ربحت أوطانهم، بل وعالمهم الإنساني عبر تاريخه من الطائفية الدينية أو العرقية أو حتى السياسية؟
هذا يقودنا إلى سؤال تالٍ، ماذا قدمتم في الرابطة لأجل توضيح صورتنا نحن العرب والمسلمين حول العالم، خاصة أن هناك أطروحات غربية تتهم المسلمين بالطائفية والإقصائية؟
نحن دوماً نوضح للعالم بأسره بأن الإسلام يمثله نصوصه الدينية وسيرة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، وما عدا ذلك، فهي اجتهادات تصيب وتخطئ، هذا على أحسن أحوالها، وفي أحوال أخرى مطامع مادية تقدم باسم الدين والدين منها براء، وثالثة تطرف في الدين إنما يمثل أيديولوجيته المنحرفة.
ونقول بأن الاجتهادات التي تصيب وتخطئ هي في المنطقة الآمنة بل هي ثراء في الفكر الإسلامي، وهي التي تمثل السواد الأعظم من الاختلاف، أما الثانية والثالثة، فهي قلة قليلة ليست بشيء أمام ملياري مسلم، ولو قلت بأنهم ربع في المائة لبالغت جداً في الرقم، ولكن التطرف بضوضائه وخاصة متى مارس عنفاً أو إرهاباً، فإن صداه مؤثر، كالصوت النشاز في الدولة الوطنية المتحضرة.
ونقول أيضاً بأن العالم الإسلامي تجمعه منظومتان: منظومة سياسية ومنظومة علمائية، تمثل المنظومة الأولى منظمة التعاون الإسلامي، والثانية هي رابطة العالم الإسلامي.. هاتان المنظمتان هما من يتحدث مؤسسياً باسم الإسلام والمسلمين، كل بحسب رسالتها ومهامها، وليس شذاذ الآفاق.
ولهذا، أصدرنا في رابطة العالم الإسلامي وثيقة مكة المكرمة، وهي ثاني أهم وثيقة في التاريخ الإسلامي بعد وثيقة المدينة المنورة التي أمضاها نبينا وسيدنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كما أصدرنا في رمضان الفائت وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية، وكلا الوثيقتين اجتمع لها مفتو وعلماء الأمة الإسلامية في مكة المكرمة بجوار الكعبة المشرفة، وقد شهد مؤتمري الوثيقتين حضورٌ علمائي غير مسبوق.. لاحظ في كلا المؤتمرين حضرت المذاهب والطوائف الإسلامية كافة، 27 مذهباً وطائفة من 139 دولة، وتم تمثيل الجزائر من قبل قامات علمائية تُعَبِّر عن الثقل الجزائري العلمائي.
هل تعتقد أن المشكلة ستنتهي بمجرد عقد هذه المؤتمرات والوثائق؟ فكم صدر عن العالم الإسلامي بل والأمم المتحدة من اجتماعات وقرارات ويكفي ميثاق الأمم المتحدة الذي يراوح مكانه؟
-متى كانت المؤتمرات والوثائق مشفوعة بعزيمة صادقة، فإنها تنفع.. وأنا لن أتحدث هنا إلا عما يخصنا وهو مؤتمراتنا ووثائقنا، لقد لقيت من الترحاب والتأثير الشيء الكثير وهذا على أرض الواقع.. تصور أن وثيقة مكة المكرمة، على سبيل المثال، وهي التي تحمل التنوير الإسلامي المعاصر وأمضتها الدول الإسلامية في القمة الإسلامية الأخيرة في غامبيا، وذلك للإفادة منها في المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية،، هذه الوثيقة حالياً معتمدة في تدريب الأئمة في عدد من الدول وتُدَرَّس في عدد من المناهج، ولك أن تتصور أيضاً كيف فعلت هذه الوثيقة في تصحيح المفاهيم عن الإسلام والمسلمين، هل تصدق أن القيادات الإنجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية طلبت منا تدريب الأئمة المسلمين في أمريكا عليها، بل وأقاموا ثلاثة مؤتمرات للاحتفاء بمضامينها التي وصفوها بأنها تمثل القيم الدينية والإنسانية المشتركة، مؤكدين أنها داعية سلام وحوار فعال وتحالف حضاري؟
وأيضاً، هل تتصور أن وثيقة بناء الجسور حسمت موضوعات مهمة بين المذاهب الإسلامية، وأمضاها قيادات علمائية وازنة ومؤثرة.. من السنة جاءت المدارس كافة.. ومن الشيعة التقت في مكة المكرمة من أجل مؤتمر هذه الوثيقة، مدرستا قم والنجف.
طبعاً، لن نصلح كل شيء من خلال مؤتمر أو أكثر أو وثيقة أو أكثر لكنها خطوات مهمة ومؤثرة في مشوارنا الطويل نحو طموحنا الكبير. وأنا معك في سؤالك لكن بطريقة أخرى، وهو أنه إذا تحدثت المؤسسات، سواء الأهلية أو الحكومية أو حتى الأفراد، عن مساعيهم نحو الخير فقل هذا جيد، لكن ماذا عن النتائج؟ إذا سألت عن النتائج اتضحت الحقائق، ومع هذا، نقدر كل جهد حتى وإن لم يكن له ذلكم الأثر المرجو، فله أجر العمل وحسن النية، وإلا لأُحبط الجميع ولم يعملوا.