ـ المملكة العربية السعودية منصة عالمية مُلهمِة في ترسيخ قيم الاعتدال الديني
ـ التطرف يقوم على أيديولوجية وليس على كيان سياسي مجرد أو قوة عسكرية
ـ المقاومة العسكرية للإرهاب مهمة لكن لابد من المواجهة الفكرية والعلمية
ـ 85% من مقاتلي التنظيمات الإرهابية متأثرون بالمحتوى المُهَيِّج للعواطف الدينية
ـ التطرف يوظف تقنية العالم الافتراضي لاختراق الحدود وإيصال رسائله بسهولة
أكد معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أن التطرف لم يقم على كيان سياسي مجرد ولا على قوة عسكرية، وإنما على أيديولوجية استطاعت الترويج لنفسها وتمرير أفكارها في ظل غياب المواجهة العلمية والفكرية اللازمة، ومن هنا تمكن التطرف من خطف بعض الشباب، مستفيداً كذلك من مناطق الصراع السياسي حيث تكاثر في مستنقعاتها مستغلاً العاطفة الدينية المجردة عن الوعي.
جاء ذلك في محاضرةً حول قدرة المنظمات العنيفة على التكيف والرسائل الموجهة، ألقاها معاليه على كبار التنفيذيين بمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية “نيسا” التابع لوزارة الدفاع الأمريكية.
وتضمنت المحاضرة إلقاء الضوء على تقييم عواقب التطرف العنيف حول العالم، وتحليل دور المجتمعات الوطنية بكافة فعالياتها في التعامل مع اتجاهات التطرف العنيف، واستعرض معالي الدكتور العيسى تجربة رابطة العالم الإسلامي في مكافحة التطرف العنيف، وتحديداً المبادرات المقدمة منها في هذا الجانب، وبخاصة مخرجات المؤتمر الذي نظمته الرابطة واستضافه مقر الأمم المتحدة بجنيف في فبراير 2020م ، وصدر عنه إعلان جنيف مشتملاً على 28 مبادرة بآلياتها التنفيذية، منها مبادرة: “أسباب ومعالجة تطرف بعض الشباب المتدين”، ومبادرة: “كيف نواجه التطرف العنف؟”، ومبادرة: “التهميش والفقر كأسباب للتطرف العنيف ـ التشخيص والتحليل والمعالجة “، ومبادرة: “معالجة استدلالات التطرف بالنصوص الدينية والوقائع التاريخية”، وغيرها من المبادرات المهمة التي ناقشها المؤتمر من كبار المختصين حول العالم.
طبيعة التطرف
وتطرق معالي الشيخ العيسى في محاضرته إلى أهمية فهم طبيعة التطرف مبيناً أنه بشكل عام حالة خارجة عن حد الاعتدال، مشيراً إلى أن المصطلحات تختلف في فهمها، فالتطرف في السياق الإسلامي غالباً ما ينصرف إلى تبني أفكار حادة تمارس العنف أو الإرهاب أو تحرض عليه أو تنشئ محاضن فكرية لعناصر العنف أو الإرهاب، في حين غالباً ما يُفهم مصطلح التطرف خارج السياق الإسلامي، وتحديداً في الغرب على أنه يمثل رأياً ينحى نحو أقصى اليمين، وقد يُمَثّل رأياً حاداً لا أكثر، ولاسيما إذا كان الاسم مجرداً عن أي وصف آخر يصفه بالعنف أو الإرهاب، لكن من المهم أن نستوعب هذه الفوارق منعاً لأي لبس.
وشرح الشيخ العيسى، محورًا آخر يتعلق بفهم طبيعة التطرف، قائلًا: “حتى نفهم طبيعة التطرف لا بد أن نفهم الأسباب التي تحمل المتطرفين عليه” ثم استعرض عدداً من هذه الأسباب وشرع في تفصيلاتها والتعليق عليها.
وركز معاليه على أن التطرف أخذ فترة طويلة وهو يُروج لأيديولوجيته حول العالم، دون أن تكون هناك مواجهة علمية وفكرية قوية، مؤكداً أن التطرف لم يقم على كيان سياسي مجرد ولا على قوة عسكرية وإنما على أيدلوجية استطاعت الترويج لنفسها وتمرير أفكارها في ظل غياب المواجهة العلمية والفكرية اللازمة، ومن هنا تمكن من خطف بعض الشباب، مستفيداً كذلك من مناطق الصراع السياسي حيث تكاثر في مستنقعاتها مستغلاً العاطفة الدينية المجردة عن الوعي.
وأضاف معاليه: أن التطرف استطاع التعمق في منطقة الفراغ السابقة ومن ثم تكوين جيل من المتطرفين أصبحوا على أنواع.
وأوضح العيسى: أن التطرف الإرهابي لم يعد بحاجة إلى شيء أكثر من توظيفه لتقنية العالم الافتراضي الذي استطاع من خلاله اختراق الحدود وإيصال كافة رسائله لأي مكان بكل سهولة، كما أن هذا العالم الافتراضي قلل من اعتماد التطرف الإرهابي على المال، علاوة على أن الإرهاب وخاصة إرهاب داعش اتخذ استراتيجية جديدة فعملية إرهابية واحدة يمكن لها أن تُسمّع العالم قد لا تكلف سوى سيارة مسروقة أو سلاح أبيض أو سلاح ناري يملكه الإرهابي، أو تصنيع قنبلة بشكل ذاتي، ولهذا من المهم التعويل بالدرجة الأولى في استئصال الأفكار المتطرفة على الأفكار المضادة لها، مشيرًا معاليه إلى كيفية العمل على تلك المواجهة المضادة.
رسائل التشدد الديني
واستعرض الدكتور العيسى التوظيف السلبي لرسائل التشدد الديني. مؤكدًا أن النسبة العالية في استقطاب التطرف للشباب يرتكز على توظيف العاطفة الدينية المجردة عن الوعي واستغلال عدد من القضايا وخاصة بعض القضايا السياسية لتصعيدها مع التركيز على فكرة المؤامرة.
وأوضح أمين عام الرابطة أن أغلبية مقاتلي القاعدة وداعش كانوا مشحونين بالعواطف الدينية، أكثر من شحنهم بالمعلومات الدينية المتطرفة، لأن أكثرهم لا يُعتبرون من ذوي الاهتمام بالعلم الديني، ولا يستطيعون النقاش في ذلك، وربما يكون لدى بعضهم معلومات دينية متطرفة عامة وغير تخصصية، ومن خلالها انطلق نحو الحماسة الدينية التي يدعمها إعلام القاعدة وداعش المليء بالمحتوى المهيج للعواطف والمستغل لكافة وسائل التواصل والتي تُجَدِّد مواقعها بشكل مستمر.
وأضاف : “يمكنني القول بأن حوالي 85% من الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية (أو بمعنى أدق من مقاتلي تلك التنظيمات) سواء كانوا لدى القاعدة أو داعش هم من أولئك الشباب الصغار المتأثرين بالمحتوى المُهَيِّج للعواطف الدينية، أما 15% الباقية، فهم من الأشخاص المُصَنَّفين على أنهم من المنظرين الفكريين لتلك التنظيمات، والكثير من هؤلاء، بدأ الأمرُ لديهم بتشدد ديني بسيط، ثم تطور مع الغلو في التدين. وعندما أقول التدين فإني أفرق بين الدين والتدين، والحقيقة تقول بأن الدين يمثل الإسلام، أما التدين فهو يمثل مستوى فهمك لنصوص الإسلام، وهذا التفريق هو في كل دين. ومع هذا فإن المواجهة العلمية والفكرية مهمة في حسم المعركة مع التطرف حتى لو كان متأثراً فقط بالعواطف دون الدخول في العمق الفكري، وذلك لكون العواطف مرتبطةً بذرائع محسوبة في الظاهر على النصوص الدينية، فالجميع تحت تأثير فكري آديولوجي وإن اختلفت مستويات ذلك التأثير.
الأيديولوجية المخادعة
وأشار العيسى إلى أيدلوجية الإسلام السياسي، وقال إن هذه الأيدولوجية المخادعة، تُعتبر أخطر أشكال التطرف، وهي التي صدَّرت الشباب العنيف للمنظمات الإرهابية وتحديداً القاعدة وداعش.
وقال معاليه: “إن هذا ليس قولي أنا وحدي بل هو قول قادة تلك الأيديولوجية فهم يعترفون علناً بأن أيمن الظواهري وأبومصعب الزرقاوي على سبيل المثال نشأا في محضن جماعة الإخوان ولكن تلك الجماعة بمناوراتها المعروفة تَدَّعِي بأنهم خرجوا عن أفكارها، ولكن يُكَذِّب هذه المناورة أن عدداً من عمليات الاغتيال كانوا ضالعين فيها، كما يُكذب ذلك كتب منظريهم الكبار مثل سيد قطب وغيره والتي لا يمكن أن ينكروها أو يتبرؤوا منها وهذه تحديداً تكشف حقيقة تلك المناورة، علاوة على أعمال خطرة وقعوا فيها.
وبيَّن معاليه أن هذه الجماعة تختزل المفهوم العام والشامل للإسلام في أهداف سياسية فقط، بينما الإسلام جاء برسالة منصبة على أمرين : العقائد والتشريعات، ولم يتطرق الإسلام مطلقاً إلى شكل الحُكم وجعل هذا للناس فيما يرونه أنسب لهم وفق معايير المصلحة العامة وقيم العدالة المرتكزة على الهوية الدستورية.
وقال العيسى : إن هذه الأيديلوجية المتطرفة قامت بشحن المجتمعات المسلمة وحاولت إعاقة جهود الوئام المجتمعي في دول التنوع الديني والإثني والثقافي، وكذلك إعاقة جهود الصداقة بين الأمم والشعوب، وعرقلة جهود الحوار بين أتباع الأديان والثقافات. وباطلاعنا على خُطب قادة هذه الأيديولوجية، وكتب قادتها الروحيين والسياسيين نجد أفكاراً مخيفة للغاية، وهي ليست كتباً وخُطباً سرية، بل إنها منشورة ومتاحة للجميع وبأكثر من لغة. لكن الدهشة في شيء واحد، كيف يتحدثون عن القيم المتحضرة، بينما أُسُسهم الدستورية وواقعهم العملي على خلاف ذلك تماماً، في مشهد لا يمكن أن يوصف إلا أنه يُمثل انفصاماً في الشخصية، أو على أقل الأحوال المناورة المكشوفة من أول جولة مع هذه الجماعة.
المفارقة والتناقض
وأشار معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى أنه من عدة سنوات جرى الحوار مع أحد قادة هذه الأيديولوجية عن هذه المفارقة والتناقض فقال: “إنه لا يوافق على الأفكار الموجودة في تلك الكتب”، فقيل له: هل يُمكنك الرد عليها في كتاب أو محاضرة لتوضح الحقيقة؟ فقال الأمور لا تعالج بهذه الطريقة. وفي النهاية اتضح أنه يمارس الخداع.
وأضاف معاليه إن هذه الجماعة هي التي رسَّخَتْ مفاهيم الكراهية، وشيطنة كل ما هو خارج إطارها المتطرف، سواء في الداخل الإسلامي أو خارجه وخاصة الغربي، كما رسخت في وجدان الشباب المسلم كراهية الجميع، وهم ضد حوار وتحالف الحضارات، لا يعرفون منطقة المشتركات وإنما منطقة الاختلافات والصدام والصراع، وهم الذين هيجوا المشاعر الإسلامية عند أي قضية يُمكن لهم استغلالُها، ولا يعرفون الحوار ولا الحكمة في التصرف ولا العدالة في الحكم على الأشياء، على حين يلجؤون إلى أسلوب ماكر يعتمد على إيجاد فاعلين ليس لهم مرجعية ظاهرة، من أجل أن تنحصر الملاحقة في حال الدخول في دائرة الاتهام على أولئك الفاعلين المنفردين ولا يُحسب على الجماعة كتنظيم.
وتابع معاليه قائلا: إن وضع تلك الجماعة حالياً يُعتبر هشاً بفعل انكشافهم من خلال ممارساتهم التي تناقض مناورات قادتهم، ومن خلال الشباب المسلم الذين هيجوهم وزجوا بهم في أماكن الصراع السياسي فتشكلت من ذلك التنظيمات الإرهابية كما حصل مع القاعدة وداعش، وكذلك من التأكد من أن الأهداف الاستراتيجية للجماعة لا تختلف عن الأهداف الاستراتيجية للقاعدة وداعش، وأن الاختلاف هو في التكتيك فقط، وأحاديث بعض قادة هذه الجماعة خلف الكواليس مع أتباعهم من الشباب الفاعلين والمؤثرين يختلف عن أحاديثهم في العلن مع عموم الناس وخاصة في اللقاءات والمؤتمرات الرسمية.
و بين معاليه أن هناك اليوم وعياً كبيراً في العالم الإسلامي وفي عدد من دول الأقليات الإسلامية بخطورة أيديولوجية الإسلام السياسي التي تقودها جماعة الإخوان المسلمين حيث تكشفت آثارها السلبية المسيئة لسمعة الإسلام والمسلمين، كما ظهرت للجميع ممارسات الكراهية والانعزالية التي تعمل عليها ضد مجتمعاتها الوطنية سواء في الداخل الإسلامي أو خارجه.
انقسام الطوائف الدينية
وتحدث معالي الشيخ العيسى في المحاضرة عن حالة الانقسام الحادّ بين الطوائف الدينية، وهو ما ولَّد في بعض حالاته طائفية تطورت إلى تطرف عنيف، كما أن عدم التوعية الكافية للشباب المسلم في العالم الإسلامي وفي دول الأقليات بالقيم الدينية الصحيحة، وعدم تعزيز قيم المواطنة الشاملة التي تؤمن بحتمية الاختلاف والتنوع والتعدد، كل ذلك ساعد على هشاشة حصانتهم العلمية والفكرية، ومن ثم سهولة التأثير عليهم من قبل جماعات التطرف العنيف والإرهابي.
بعد ذلك تحدث معاليه بإسهاب عن تقييم عواقب التطرف العنيف والإرهابي حول العالم، وقال: إن الحرب على التطرف العنيف لا بد أن تعتمد أكثر على هزيمته فكرياً، ومهما تمت مواجهته عسكرياً وتحققت انتصارات ضده فإن الأيديولوجية باقية.
وأشار معاليه إلى أنه من المواجهات العسكرية الناجحة جداً ما قام به التحالف الدولي ضد داعش بمشاركة 83 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وقال: لا شك أن المواجهة العسكرية مهمة جداً لكن الأهم منها المواجهة الفكرية وهي تمر بمرحلتين: الأولى: وقائية تحصينية وتبدأ من الأسرة والمدرسة ومنصات التأثير الديني والاجتماعي إضافة إلى أهمية معالجة الظروف التي قد تساعد على سهولة استقطاب الشباب نحو العنف والإرهاب. والثانية: علاجية وتتركز في الغالب على تفكيك أيديولوجية التطرف بكافة محاورها عبر الطرح العلمي والفكري والاجتماعي القوي، وهذا لا بد له من مشروع مؤسسي يشتمل على مبادرات وبرامج وتقويم مستمر مع قياس النتائج.
وأكد الدكتور العيسى في صُلب حديثه على أن المملكة العربية السعودية تُعتبر اليوم منصة عالمية مُلهمِة في ترسيخ قيم الاعتدال الديني. وقال: إنه خلال السنوات الخمس الماضية والتي بدأت تحديداً بعد إنشاء التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب في ديسمبر لعام 2015م مشتملاً على ثلاثة محاور: العسكري والفكري والإعلامي ومواجهة تمويل الإرهاب، من هذا التاريخ أصبحت هناك نقطة تحول دولية كبيرة في مواجهة الإرهاب وتحديداً في الداخل الإسلامي. وتبع ذلك إنشاء عدد من المنصات العالمية لمواجهة أفكار الأيديولوجية المتطرفة، فمع مركز “اعتدال” العالمي هناك مركز “الحرب الفكرية” الذي يعمل على تفكيك تفاصيل الأيديولوجية المتطرفة.
وأوضح معالي الدكتور العيسى أن اتفاق المفتين وكبار علماء العالم في مؤتمر وثيقة مكة المكرمة بقيادة رابطة العالم الإسلامي في مايو 2019م يُعتبر خطوة قوية في مواجهة تلك الأفكار، حيث توافق أكثر من 1200 مفت وعالم من 139 دولة في لقاء تاريخي غير مسبوق وبحضور كافة أتباع المذاهب والطوائف الإسلامية بدون استثناء (27 مذهباً وطائفة)، على إصدار تلك الوثيقة التي تمثل خارطة طريق للفكر الإسلامي المستنير، وهذا العمل المجمعي التاريخي المهم يُعتبر من الضربات القوية التي مُني بها التطرف.
بعد ذلك، وفي الشطر الثاني من وقت المحاضرة أجاب معاليه عن أسئلة الحضور والتي تطرقت لعدد من الموضوعات المهمة وذات الصلة بموضوع المحاضرة.